--------------------------------------------------------------------------------
+
----
-خصائص جزيرة العرب
ينتظم هذا ذِكْرَ خصائص الجزيرة عموما ، فالحجاز خصوصا، فعرب الجزيرة خصوصا ، فالعربُ عموما .
فأَلقِ لها سمعك ؛ فهو خير تُدَلُّ عليه .
1. خصائص الجزيرة عموما
هذه جملتها :
* الأولى :
هذه الجزيرة حرم الإسلام ، فهي معلمه الأول ، وداره الأولى ، قصبة الديار الإسلامية ، وعاصمتها، وقاعدة لها على مر العصور، وكر الدهور، منها تفيض أنوار النبوة الماحية لظلمات الجاهلية ، ولذلك جاءت المنح المحمدية في صحيح السنة بما لهذه الجزيرة من خصائص وأحكام ؛ لتبقى هذه المنطقة قاعدة الإسلام دائماً ؛ كما كانت قاعدته أولاً ، ومعقل الإيمان آخرا ؛ كما كانت سابقا .
وهذه –وأيم الله– ضماناتٌ لا يمكن أن تكون لهيئة الأمم المتحدة (!) و لا لمجلس الأمن (!) ولا لمنظمة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (!) التي ما نشأت إلا في محيط حكومات الغاب وتهارش العباد .
أما جزيرة العرب ؛ فلها من سامي المكانة التي تتميز بها في (خريطة العالم) ، ودقيق الضمانة الواجب توفيرها ، ما يجعل فعاليتها في أمم الأرض تفوق هذه المؤتمرات التي هي في حقيقتها تآمر على ما ينبزونه توهينا باسم (العالم الثالث) ، الذي ليس بعده في حسبانهم من رابع ، وباسم (الشرق الأوسط) _ وهذا الاصطلاح الحادث وسابقه من تخطيط يهود قبحهم الله ؛ لتبقى منطقة العرب والمسلمين منطقة جغرافية فحسب ، لا اختصاص لها بعرب ولا بمسلمين ، وهو تخطيط خبيث يرمي بعدُ إلى تسويغ إقامة دولة يهود خسئوا- .
وليعلم أولا أن الشرق مشرق العظائم ، وأنه بلغ موضع أقدامهم بسلطان قائم ، وما على الله بعزيز أن يبلغ الإسلام مبلغه منهم ، وبالغ الأمل في الأفق يلوح ، ونزول النصر لنا مرهون منا بتوبة نصوح .
فاعرف هذه الخصيصة لجزيرة العرب من أنها (حرم الإسلام) ، وللحرم حرماته التي لا تنتهك ، ولن تكون دار كفر أبدا ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم .
* الثانية :
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم" رواه مسلم في "صحيحه" (2812) ، والترمذي (1937) ، و أحمد (3/ 313 و 354) ، وأبو يعلى (2294) ، والبغوي في "شرح السنة" (3525) ، وابن أبي عاصم في "السنة" (
، وابن حبان (64 و 1836) ؛ من طرق عنه .
وقد جاء هذا الحديث عن جماعة من الصحابة بألفاظ متقاربة .
1. حديث جرير بن عبدالله البجلي :
رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (2267) .
وفي سنده حصين بن عمر الأحمسي ، قد ضعفه الجمهور؛ كما قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 53) .
2. حديث عبدالله بن عباس :
رواه البيهقي في "دلائل النبوة" (5/ 449) .
وفي سنده ابن أبي أويس – واسمه إسماعيل _ هو وأبوه ضعيفان .
3. حديث ابن مسعود :
أخرجه الحميدي (98) ، والحاكم (2/ 27) .
وفيه إبراهيم الهَجَري ، وبه أعله الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 189) .
4. حديث أبي الدرداء:
رواه البزار (2849-زوائده) من طريق إبراهيم بن أبي العباس عن عبدالحميد بن بَهْرام عن شهر بن حوشب عن ابن غَنْم به .
واختُلِف عليه فيه : فرواه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 269) من طريق جبارة بن المغلِّس عن عبدالحميد به ، ولكن جعله عن عبادة وأبي الدرداء ؟
فإن لم يكن هذا من جبارة ، فهو من تخاليط شهر ؟؟ وعبدالحميد فيه ضعف أيضا ؟
5. حديث أبي هريرة :
رواه البزار (2850) ، وأبو نعيم في "الحلية" (7/ 86) ؛ من طريقين عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة .
والخلاصة : أن متن الحديث ثابت من عدة طرق عن عدد من الصحابة رضوان الله عليهم .
ومعنى هذا الحديث : أن الشيطان يئس من اجتماع أهل الجزيرة على الإشراك بالله تعالى .
ومنذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وهي إلى يومنا هذا دار إسلام – ولله الحمد، حماها الله وسائر أوطان المسلمين- ، ولم يعرف الشرك فيها إلا جزئيا على فترات في فرد أو أفراد ، ثم يهيئ الله على مدى الأزمان من يردهم إلى دينهم الحق .
على أن بعض العلماء رحمهم الله تعالى رأى عموم هذا الحديث لأمة محمد صلى الله عليه وسلم .
قال ابن رجب رحمه الله في شرحه لهذا الحديث :
"المراد أنه يئس أن تجتمع الأمة كلها على الشرك الأكبر" . انتهى .
وذلك كما في قول الله تعالى من سورة المائدة : {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :
"وعلى هذا يرد الحديث الصحيح : (فذكره) ".
وبهذا يكون ذكر جزيرة العرب ؛ لمزيتها بأنها أصل ديار الإسلام ، و أهلها أصل المسلمين ومادتهم . والله أعلم .
* الثالثة :
جزيرة العرب وقف في الإسلام على أهل الإسلام ؛ على من قال : "لا إله إلا الله محمد رسول الله" ، وقام بحقهما .
جزيرة العرب وديعة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمته ، التي استحفظهم عليها في آخر ما عهده النبي صلى الله عليه وسلم .
فهي دارٌ طيبة ، لا يقطنها إلا طيب ، ولما كان المشرك خبيثا بشركه ؛ حُرِّمت عليه جزيرة العرب .
ويدل لهذا عدد من الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ من حديث عمر ، وابنه عبدالله ، وعائشة ؛ رضي الله عنهم ، وحديث عمر بن عبدالعزيز مرسلا .
فعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما" .
رواه مسلم ، وأبو عبيد في "الأموال" . وعن عائشة رضي الله عنها ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "قاتل الله اليهود والنصارى ؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، لا يبقين دينان في ارض العرب" .
متفق عليه .
وأخرجه مالك في "الموطإ" مرسلا عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى .
و عن عائشة رضي الله عنها قالت : "آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يترك بجزيرة العرب دينان" .
رواه أحمد وغيره .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"لا يجتمع في جزيرة العرب دينان" .
رواه أبو عبيد في "الأموال" .
فهذه الأحاديث في الصحاح نص على أن الأصل شرعا منع أي كافر -مهما كان دينه أو صفته– من الاستيطان والقرار في جزيرة العرب ، وأن هذا الحكم من آخر ما عهده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمته .
وبناء على ذلك :
1_ فليس لكافر دخول جزيرة العرب للاستيطان بها .
2_ وليس للإمام عقد الذمة لكافر . بشرط الإقامة لكافر بها . فإن عقده فهو باطل .
3_ وليس للكافر المرور و الإقامة المؤقتة بها إلا لعدة ليال ؛ لمصلحة ؛ كاستيفاء دين ، وبيع بضاعة ، ونحوهما.
4_ وليس للكافر اتخاذ شيء من جزيرة العرب داراً ؛ بتملك أرض ، أو بناء عليها ؛ لأنه إذا حرّمت الإقامة والاستيطان ؛ حرّمت الأسباب إليهما ، وما حرّم استعماله ، حرّم اتخاذه .
ولهذا فلو أحيى الكافر أرضا فيها – لوَضْعٍ فاسدٍ يمكنه – ؛ لم يملك بالإحياء ، والواجب نزعه منه بوجهه الشرعي .
ولو تملك – كذلك- ؛ لم يكن له حق الشفعة ، فليس لعرق ظالم حق .
5_ ولا تدفن جيفة كافر بها ، فإن مات على أرض الجزيرة نقل عنها ؛ إلا للضرورة ؛ كالتعفن ، فتغيَّب جيفته في عَماءٍ من الأرض ، لا في مقبرة تعد لهم .
6_ بناء على ما أجمع عليه العلماء من تحريم بناء المعابد الكفرية مثل الكنائس في بلاد المسلمين ، وأنه لا يجوز اجتماع قبلتين في بلد واحد من بلاد الإسلام ، ولا أن يظهر فيها شيء من شعائر الكفر لا كنائس ولا غيرها ، وما أجمع عليه العلماء من وجوب هدم الكنائس إذا أحدثت وأنه لا يجوز معارضة ولي الأمر في هدم المعابد الكفرية بل تجب طاعته وبناء على ما هو معلوم من الدين بالضرورة من تحريم الكفر الذي يقتضي تحريم إنشاء مكان يكفر فيه بالله تعالى ، والكنيسة معبد كفري لا تتخذ إلا لذلك ، فلا كنيسة في الإسلام .
وبناء على ما أجمع عليه العلماء من أن بناء المعابد الكفرية ومنها الكنائس في جزيرة العرب أشد إثما وأعظم جرما ، وقد وردت الأحاديث الصحيحة الصريحة بخصوص النهي عن اجتماع دينين في جزيرة العرب .
وفي "الإقناع" : (4/ 287 ) قال الحجاوي في : (باب حكم المرتد) ما نَصُّه نقلا عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحم الله الجميع- .
"وقال الشيخ -أي شيخ الإسلام ابن تيمية_ : من اعتقد أن الكنائس بيوت الله ، وأن الله يعبد فيها ، أو أن ما يفعله اليهود والنصارى عبادة لله ، وطاعة لرسوله ، أو أنه يحب ذلك أو يرضاه ، أو أعانهم على فتحها وإقامة دينهم ، وأن ذلك قربة أو طاعة ، فهو كافر . وقال في موضع آخر : من اعتقد أن زيارة أهل الذمة كنائسهم قربة إلى الله ، فهو مرتد ، وإن جهل أن ذلك محرم ، عُرِّف ذلك ، فإن أصرَّ صار مرتداً" انتهى .
بناء على جميع ما تقدم فإنه ليس لكافر إحداث كنيسة فيها ، ولا بيعة ، ولا صومعة ، ولا بيت نار ، ولا نَصْبِ صنمٍ ؛ تطهيرا لها عن الدين الباطل ، ولعموم الأحاديث .
وعليه ؛ فليس للإمام الإذن بشيء منها ، ولا الإبقاء عليه ؛ محدثا كان أو قديما .
7_ ولأنه لا يجوز إقرار ساكن وهو على الكفر ، فإن وجد بها كفار ؛ فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف .
وعليه ؛ فلا تثبت الجزية في رقابهم مع الإقامة بها .
8_ وبما أن جزيرة العرب دارُ إسلامٍ أبداً ؛ فهي جميعها أرض عشر ، لا تكون خراجية أبدا ؛ لأن الخراج بمنزلة الجزية ، فكما لا تثبت في رقابهم مع الإقامة بها ؛ لا تثبت في أرض تملكوها ظلما بها ، لكنه الإسلام ، أو السيف ، أو الجلاء.
وكل هذه الأحكام بقصد إِحكامِ الوحدة السياسية في الوحدة الجنسية .
* الرابعة :
ومن خصائص هذه الجزيرة المباركة أن الإسلام حين يضطهد في دياره خارجها ؛ فإنه ينحاز إلى هذه الجزيرة ، ويأوي إليها ، فيجد كرم الوفادة بعد الغربة وطول المحنة .
وفي ذلك جاء حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرِزُ بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها" .
فانظر كيف ربط النبي صلى الله عليه وسلم بين غربة الإسلام ، ثم احتضان هذه الجزيرة له ؛ انتشالاً من غربته.
2. خصائص الحجاز
يقع الحجاز من جزيرة العرب موقع التاج من الحُلَّةِ ، وبين مسجديه يأرِز الإيمان ، وينحاز في آخر الزمان ؛ كما سبق حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
وتمتع بهذه الشذرة الفائقة من كلام القاضي عياض –رحمه الله تعال – في "الشفا" عن الحرمين الشريفين ، فيقول :
"و جدير بمواطن عمرت بالوحي و التنزيل ، و تردد بها جبريل و ميكائيل ، و عرجت منها الملائكة و الروح ، و ضجت عرصاتها بالتقديس و التسبيح ، و اشتملت تربتها على جسد سيد البشر ، و انتشر عنها من دين الله و سنة رسوله ما انتشر ، مدارس آيات ، و مساجد و صلوات ، و مشاهد الفضائل و الخيرات ، و معاهد البراهين و المعجزات ، و مناسك الدين ، و مشاعر المسلمين ، و مواقف سيد المرسلين ، و مُتَبَوَّأُ خاتم النبيين ، حيث انفجرت النبوة ، و أين فاض عبابها ، و مواطن مهبط الرسالة ، و أول أرض مس جلد المصطفى ترابها .. أن تعظم عرصاتها ، و تتنسم نفحاتها" انتهى مختصرا .
واعلم أن الخصائص السالفة لجزيرة العرب هي للحجاز – قلب الجزيرة ، بل قلب العالم الإسلامي– من بابِ أولى .
وقد اخْتُصَّ الحرمانِ الشريفانِ –مكةُ ، ومدينة النبي –صلى الله عليه وسلم– حرسهما الله تعالى – بخصائصَ ومَيِّزاتٍ :
• خصائص مهد الهداية (البلد الحرام ، أم القرى ، مكة) ؛ زادها الله شرفا :
وفي خصوص البلد الحرام ؛ فآيات القرآن الكريم ، و أحاديث نبيه عليه من الله أفضل الصلاة وأتم التسليم ، متكاثرة نصوصها على بيانها وذكرها ، وكتب المؤرخين –وبخاصة عن تاريخ الحرمين الشريفين– توضح ذلك وتشرحه :
وأكتفي هنا بذكر ما رقمه قلم الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في فاتحة كتابه الحافل "الهدي النبوي" (1/ 46 – 54) عند تفسير قول الله تعالى : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} ، فقال رحمه الله تعالى :
"ومن هذا اختياره سبحانه وتعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها ، وهي البلد الحرام ؛ فإنه سبحانه وتعالى اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وجعله مناسك لعباده ، وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد من كل فج عميق ، فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين كاشفي رؤوسهم ، متجردين عن لباس الدنيا ، وجعله حرما آمنا ، لا يسفك فيه دم ولا تعضد به شجرة ، ولا ينفر له صيد ، ولا يختلى خلاه ، ولا تلتقط لقطته للتمليك ، بل للتعريف ليس إلا ، وجعل قصده مكفرا لما سلف من الذنوب ، ماحيا للأوزار ، حاطا للخطايا ؛ كما في "الصحيحين" عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أتى هذا البيت ، فلم يرفث ، ولم يفسق ؛ رجع كيوم ولدته أمه".
ولم يرض لقاصده من الثواب دون الجنة ، ففي "السنن" من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"تابعوا بين الحج والعمرة ؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ، وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة" .
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" .
فلو لم يكن البلد الأمين خير بلاده ، وأحبها إليه ، ومختاره من البلاد ؛ لما جعل عرصاتها مناسك لعباده ؛ فرض عليهم قصدها ، وجعل ذلك من آكد فروض الإسلام ، وأقسم به في كتابه العزيز في موضعين منه ، فقال تعالى : { وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ (3)} (التين : 3) ، وقال تعالى : {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)} (البلد: 1) .
وليس على وجه الأرض بقعة يجب على كل قادر السعي إليها ، والطواف بالبيت الذي فيها ؛ غيرها ، وليس على وجه الأرض موضع يشرع تقبيله واستلامه ، وتحط الخطايا والأوزار فيه ؛ غير الحجر الأسود ، والركن اليماني .
و ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ، ففي "سنن النسائي" و "المسند" بإسناد صحيح عن عبدالله بن القلبير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه ؛ إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة" .
ورواه ابن حبان في "صحيحه" .
وهذا صريح في أن المسجد الحرام أفضل بقاع الأرض على الإطلاق ، ولذلك كان شد الرحال إليه فرضا ، ولغيره مما يستحب ولا يجب .
وفي "المسند" و "الترمذي" و "النسائي" عن عبدالله بن عدي بن الحمراء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بالحَزْوَرَةِ من مكة يقول : "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك ؛ ما خرجت" .
قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
بل ومن خصائصها كونها قبلة لأهل الأرض كلهم ، فليس على وجه الأرض قبلة غيرها . ومن خواصها أيضا أنه يحرم استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة ؛ دون سائر بقاع الأرض .
وأصح المذاهب في هذه المسألة أنه لا فرق بين الفضاء والبنيان ؛ لبضعة عشر دليلا قد ذكرت في غير هذا الموضع ، وليس مع المفرق ما يقاومها البتة ؛ مع تناقضهم في مقدار الفضاء والبنيان ، وليس هذا موضع استيفاء الحِجاج من الطرفين .
ومن خواصها أيضا أن المسجد الحرام أول مسجد في الأرض ؛ كما في "الصحيحين" عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد في الأرض؟ فقال : "المسجد الحرام" . قلت : ثم أي ؟ قال : "المسجد الأقصى" . قلت : كم بينهما؟ قال : "أربعون عاما" .
وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به ، فقال : معلومٌ أن سليمان بن داود هو الذي بنى المسجد الأقصى ، وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام !
وهذا من جهل هذا القائل ؛ فإن سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى تجديده ، لا تأسيسه ، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وآلهما وسلم بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا المقدار .
ومما يدل على تفضيلها أن الله تعالى أخبر أنها أم القرى ، فالقرى كلها تبع لها ، وفرع عليها ، وهي أصل القرى ، فيجب ألا يكون لها في القرى عديل ، فهي كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الفاتحة أنها أم القرآن ، ولهذا لم يكن لها من الكتب الإلهية عديل .
و من خصائصها أنها لا يجوز دخولها لغير أصحاب الحوائج المتكررة إلا بإحرام ، وهذه خاصية لايشاركها فيها شيء من البلاد ، وهذه المسألة تلقاها الناس عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقد روي عن ابن عباس بإسناد لا يحتج به مرفوعا :
"لا يدخل أحد مكة إلا بإحرام من غير أهلها" .
ذكره أبو أحمد بن عدي ؛ ولكن حَجّاج بن أرطاة في الطريق ، وآخر قبله من الضعفاء .
وللفقهاء في المسألة ثلاثة أقوال : النفي ، و الإثبات ، و الفرق بين من هو داخل المواقيت ومن هو قبلها ، فمن قبلها لا يجاوزها إلا بإحرام ، و من هو داخلها ، فحكمه حكم أهل مكة ، و هو قول أبي حنيفة ، و القولان الأولان للشافعي و أحمد .
و من خواصه أنه يعاقب فيه على الهمِّ بالسيئات وإن لم يفعلها ؛ قال تعالى : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)} ( الحج : 25) .
فتأمل كيف عَدَّى فعل الإرادة هاهنا بالباء ، و لا يقال : أردت بكذا ؛ إلا لما ضُمن معنى فعل (همّ) فإنه يقال : هممت بكذا ، فَتَوَعَّدَ من همّ بأن يظلم فيه بأن يذيقه العذاب الأليم .
ومن هذا تضاعف مقادير السيئات فيه ، لا كمياتها ؛ فإن السيئة جزاؤها سيئة ، لكن سيئة كبيرة وجزاؤها مثلها ، و صغيرة جزاؤها مثلها ، فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد و أعظم منها في طرف من أطراف الأرض ، و لهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه ، فهذا فصل النزاع في تضعيف السيئات ، والله أعلم .
وقد ظهر سر هذا التفضيل والاختصاص في انجذاب الأفئدة ، وهوى القلوب ، وانعطافها ومحبتها لهذا البلد الأمين ، فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد ، فهو الأولى بقول القائل :
محاسنه هيولى كل حسن ومغناطيس أفئدة الرجال
و لهذا أخبر سبحانه أنه مثابة للناس ؛ يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار ، ولا يقضون منه وطرا ، بل كلما ازدادوا له زيارة ؛ ازدادوا له اشتياقا .
لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقا
فلله كم لها من قتيل وسليب وجريح ، وكم أنفق في حبها من الأموال و الأوطان ؛ مقدما بين يديه أنواع المخاوف و المتالف ، والمعاطب والمشاق ، و هو يستلذ ذلك كله ، ويستطيبه ، و يراه –لو ظهر سلطان المحبة في قلبه- أطيب من نِعَمِ المُتَحَلِّيَةِ وترفهم ولذاتهم .
وليس محبا من يعد شقاءه عذابا إذا ما كان يرضى حبيبه
وهذا كله سر إضافته إليه سبحانه وتعالى بقوله : { وَطَهِّرْ بَيْتِي } (الحج : 26) ، فاقتضت هذه الإضافة الخاصة من هذا الإجلال والتعظيم والمحبة ما اقتضته ؛ كما اقتضت إضافته لعبده ورسوله إلى نفسه ما اقتضته من ذلك ، وكذلك إضافته عباده المؤمنين إليه كستهم من الجلال والمحبة والوقار ما كستهم .
فكل ما أضافه الرب تعالى إلى نفسه ؛ فله من المزية و الاختصاص على غيره ما أوجب له الاصطفاء والاجتباء ، ثم يكسوه بهذه الإضافة تفضيلا آخر ، و تخصيصا و جلالة زائدا على ما كان له قبل الإضافة .
و لم يوفق لفهم هذا المعنى من سَوَّى بين الأعيان والأفعال ، والأزمان والأماكن ، وزعم أنه لا مزية لشيء منها على شيء ، و إنما هو مجرد الترجيح بلا مرجح .
وهذا القول باطل بأكثر من أربعين وجها قد ذُكِرت في غير هذا الموضع ، ويكفي تصور هذا المذهب الباطل في فساده ؛ فإن مذهبا يقتضي أن تكون ذوات الرسل كذوات أعدائهم في الحقيقة ، و إنما التفضيل بأمر لا يرجع إلى اختصاص الذوات بصفات ومزايا لا تكون لغيرها ، و كذلك نفس البقاع واحدة بالذات ، ليس لبقعة على بقعة مزية البتة ، و إنما هو لما يقع من الأعمال الصالحة ، فلا مزية لبقعة البيت ، و المسجد الحرام ، و منى ، و عرفة ، و المشاعر على أي بقعة سميتها من الأرض ، و إنما التفضيل باعتبار أمر خارج عن البقعة ، لا يعود إليها ولا إلى وصف قائم بها .
والله سبحانه وتعالى قد رد هذا القول الباطل بقوله تعالى : { وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ } ؛ قال تعالى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } (الأنعام : 124) أي : ليس كل أحد أهلا ولا صالحا لتحمل رسالته ، بل لها محال مخصوصة لا تليق إلا بها، ولا تصلح إلا لها ، والله أعلم بهذه المحال منكم .
ولو كانت الذوات متساوية -كما قال هؤلاء- لم يكن في ذلك رد عليهم .
وكذلك قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} (الأنعام : 53) ، أي : هو سبحانه أعلم بمن يشكره على نعمته ، فيختصه بفضله ، ويمنّ عليه ، ممن لا يشكره ، فليس كل محل يصلح لشكره ، و احتمال منّته ، و التخصيص بكرامته .
فذوات ما اختاره واصطفاه من الأعيان والأماكن والأشخاص وغيرها مشتملة على صفات وأمور قائمة بها ليست لغيرها ، ولأجلها اصطفاها الله ، و هو سبحانه الذي فضلها بتلك الصفات ، وخصها بالاختيار ، فهذا خلقه ، و هذا اختياره { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } (القصص : 68) ..." .
إلى أن قال رحمه الله :
"... ولم نقصد استيفاء الرد على هذا المذهب المردود المرذول ، و إنما قصدنا تصويره ، و إلى اللبيب العادل العاقل التحاكم و لا يعبأ الله و عباده بغيره شيئا ، والله سبحانه لا يخصص شيئا ، ولا يفضله ويرجحه ؛ إلا لمعنى يقتضي تخصيصه وتفضيله .
نعم هو معطي ذلك المرجح وواهبه ، فهو الذي خلقه ، ثم اختاره بعد خلقه ، وربك يخلق ما يشاء ويختار" انتهى .
و قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في "الصفدية" (1/ 220 – 221) ما نصه :
"كذلك ما خص به الكعبة الحرام من حين بناه إبراهيم وإلى هذا الوقت من تعظيمه وتوقيره وانجذاب القلوب إليه ، و من المعلوم أن الملوك وغيرهم يبنون الحصون والمدائن والقصور بالآلات العظيمة البناء المحكم ، ثم لا يلبث أن ينهدم ويهان ، و الكعبة بيت مبني من حجارة سود بواد غير ذي زرع ، ليس عنده ما تشتهيه النفوس من البساتين والمياه وغيرها ، و لا عنده عسكر يحميه من الأعداء ، و لا في طريقه من الشهوات ما تشتهيه الأنفس ، بل كثيرا ما يكون في طريقه من الخو