في العدد الأخير لواحدة من أشهر الدوريات الطبية في العالم (The Lancet)، خلص الباحثون إلى أن معدلات انتشار أمراض الرئة المزمنة بين أفراد الجنس البشري، هي أعلى بكثير مما يعتقد حالياً. فمن خلال دراسة أجراها علماء إحدى الجامعات الأميركية بولاية "أوريجون"، وشملت 9500 شخص فوق سن الأربعين من اثنتي عشرة دولة، ظهر أن واحداً من كل عشرة أشخاص مصاباً بمرض من أمراض الرئة الانسدادية المزمنة (Chronic Obstructive Pulmonary Diseases). وهذه المجموعة من الأمراض، تتميز بحدوث انسداد في المجاري التنفسية يصعب معه التنفس، وتشمل أمراضاً متنوعة مثل التهاب الشُّعب الهوائية المزمن، والأمفيزيما، وغيرهما وتتنوع الأسباب والعوامل التي تؤدي للإصابة بهذه الأمراض، وإن كان أهمها التدخين، والتلوث الهوائي. وتبلغ خطورة هذه الأمراض درجة أنها تحتل حالياً المرتبة الخامسة على قائمة أسباب الوفيات حول العالم، مع التوقع بأن ترتقي إلى المرتبة الثالثة بحلول عام 2020. ويعزو العلماء هذه الزيادة المتوقعة، إلى استمرار انتشار التدخين بين أفراد الجنس البشري، وخصوصاً مجتمعات دول العالم الثالث، بالإضافة إلى زيادة التلوث البيئي المترافق مع التطور الصناعي لهذه الدول. أما في الدول الغربية، فتعزى هذه الزيادة إلى ظاهرة تشيُّخ المجتمعات التي تشهدها تلك الدول، حيث ترتبط أمراض الرئة المزمنة بالتقدم في العمر إلى درجة أن احتمالات الإصابة تتضاعف بمرور كل عشرة أعوام بعد سن الأربعين.
وتعتبر صعوبة التنفس أو عسر التنفس (dyspnea)، هي العرض الرئيسي والمزمن لأمراض الرئة الانسدادية، وهي الصعوبة التي تزداد مع أقل مجهود إلى درجة أن المريض أحياناً يجاهد للحصول على بضعة أنفاس. وغالباً ما يترافق عسر التنفس بسعال مزمن، ينتج عنه مخاط سميك، ممزوج أحياناً ببعض الدماء نتيجة تلف ونزيف الأوعية الدموية المغلفة للمجاري التنفسية. وفي الحالات الشديدة من المرض، تصطبغ أظافر وشفتا المريض بلون أزرق باهت، نتيجة نقص تركيز الأوكسجين في الدم. وفي النهاية يتعرض المريض لفشل وهبوط في القلب، بسبب المجهود الزائد الذي يبذله القلب لدفع الدم خلال الرئتين. وإذا ما أخذنا فقط في الاعتبار الأعراض الأولية للمرض، والمتمثلة في صعوبة التنفس، وخصوصاً عند بذل مجهود، بالإضافة إلى السعال المصحوب بمخاط سميك، فإنه يمكننا بسهولة أن ندرك كيف توصل الباحثون إلى الرقم الدال على أن عشرة في المئة من أفراد الجنس البشري مصابون بانسداد المجاري التنفسية المزمن. فنتيجة انتشار هذه الصورة المرَضية بشكل كبير حولنا، وخصوصاً بين المدخنين، وتأثيرها السلبي النسبي على حياة المصابين، لا يتم تشخيص الكثير من حالات أمراض الرئة الانسدادية، إلى درجة أنه في بريطانيا وحدها، والتي تتمتع بنظام صحي اشتراكي مرتفع المستوى، يوجد حوالي مليونيْ مريض بانسداد المجاري التنفسية المزمن، لم يتم تشخيص حالاتهم حتى الآن.
وبخلاف غياب التشخيص في الكثير من الحالات، نجد أن هذه المجموعة من الأمراض لا يمكن علاجها بشكل تام. فمتى حدث التلف في الرئتين وفي المجاري التنفسية، يصعب إصلاحه أو استرجاع الحالة الطبيعية تماماً. ولذا تعتمد الاستراتيجية العلاجية في هذه الحالات، على منع حدوث المزيد من التلف، وإعادة تأهيل المريض لمساعدته على الاستمرار في الحياة برئتين فقدتا نسبة لا يستهان بها من قدرتهما على تأدية وظيفتهما الرئيسية المتمثلة في مد الجسم بالأكسجين وتخليصه من ثاني أوكسيد الكربون. ويظل المحور الأساسي في هذه الاستراتيجية هو الوقاية، من خلال تجنيب أنسجة الرئة والمجاري التنفسية العوامل التي تسبب تلفها من الأساس. والتدخين أحد أهم هذه العوامل كما ذكرنا، حيث يلعب التوقف عنه دوراً رئيسياً في إبطاء التدهور التنفسي المرافق لهذه الطائفة من الأمراض. وحتى في الحالات المتقدمة من المرض، يظل التوقف عن التدخين ضرورياً لمنع الوصول إلى المراحل النهائية من المرض والمتمثلة في العجز البدني، والإعاقة الشديدة، ثم الوفاة. وعند الأشخاص الذين نتج مرضهم عن تعرضهم خلال عملهم لملوثات خاصة، مثل الأسبستوس أو غبار الفحم أو المذيبات الكيميائية، فإنه يمكن من خلال نقلهم إلى أماكن أقل تلوثاً، أو من خلال تغيير الوظيفة بالكامل، وقف تدهور حالتهم الصحية بشكل كبير.
وإذا ما انتقلنا للحديث عن التلوث الهوائي، فسنجد أن الموضوع يخرج ساعتها عن نطاق عالم الطب، ليتحول حينها إلى موضوع اجتماعي اقتصادي سياسي. فالكثير من دول العالم الثالث، تصرُّ على استعدادها لتحمل درجات مرتفعة من تلوث الهواء، كثمن للتطور الاقتصادي، وكضريبة ضرورية لتحقيق الرفاهية لأفرادها. ففي الصين مثلاً، التي حققت خلال السنوات القليلة الماضية واحداً من أعلى معدلات النمو الاقتصادي وبشكل متواصل عاماً بعد عام، يقدر البعض أن أكثر من 750 ألف شخص يتعرضون للوفاة المبكرة من جراء تلوث الماء والهواء. وفي الشهر الماضي، حذر أحد خبراء منظمة الصحة العالمية، من أن المصابين بأمراض القلب والشرايين، قد يتعرضون لمتاعب صحية أثناء حضورهم لدورة الألعاب الأوليمبية، المقرر عقدها العام القادم في العاصمة بكين، بسبب الدرجة المرتفعة لتلوث هواء المدينة. وهو دليل قاطع، على أن الكثير من الدول في سعيها الحثيث للتطور وتوفير الرفاهية لأفرادها، تجهل أو تتجاهل الحقيقة المؤسفة بأن الكثير من هؤلاء الأفراد بعد أن يتطوروا اقتصادياً، ويترفهوا مالياً، ستنتهي حياتهم بشكل مأساوي وهم يجاهدون لالتقاط أنفاس قليلة.
د. أكمل عبد الحكيم